فصل: تفسير الآيات (92- 95):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.شبهات في قصة شعيب عليه السلام:

قال الفخر:
قصة شعيب عليه السلام:
وفيها شبه ثلاث:
الأولى: ما معنى قوله: {واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه} والشيء لا يعطف على نفسه لاسيما بالحرف الذى يقتضى التراخي وهو (ثم) جوابه من وجوه ثلاثة:
الأول: أن يكون المعنى اجعلوا المغفرة غرضكم الذى تتوجهون إليه، ثم توصلوا إليها بالتوبة. فالمغفرة أول في الطلب وآخر في السبب.
الثاني: {استغفروا ربكم} أي سلوه للمؤمنين المغفرة بالمعونة عليها، {ثم توبوا إليه}، والشيء لا يعطف لان المسألة للتوفيق ينبغى أن يكون قبل التوبة.
الثالث: وهو أن للتخلص من ضرر الذنب طريقين:
أحدهما: مغفرته تعالى وعونه. وذلك إنما يكون عند تقارب الذنب.
والثانى: التوبة الماحية للذنب، فكأنه عليه السلام أرسل إلى طلب التخلص من تلك المعاصي بجميع الطرق الممكنة.
الشبهة الثانية: ما معنى قول شعيب عليه السلام لموسى عليه السلام: {إنى أريد أن أنكحك إحدى ابنتى هاتين على أن تأجرني ثمانى حجج فان أتممت عشرا فمن عندك} فكيف يجوز في الصداق التخيير وأى فائدة للبنت فيما شرطه هو لنفسه وليس يعود عليها من ذلك نفع؟ جوابه من وجهين:
الأول: يجوز أن تكون الغنم كانت لشعيب عليه السلام وكانت الفائدة لاستئجار من يرعاها عائدة إليه إلا أنه عوض ابنته عن قيمة رعيتها، فيكون ذلك رعيا لها، وأما التخيير فلم يكن إلا فيما زاد على ثمانى حجج، وذلك الزائد لم يكن من الصداق، ويجوز أيضا أن تكون الغنم للبنت وكان الاب متوليا لامرها، قابضا لصداقها.
الثاني: يجوز أن يكون من شريعته العقد على التراضي من غير صداق معين، ويكون قوله: {على أن تأجرني ثمانى حجج} على غير وجه الصداق.
الشبهة الثالثة:
قوله: {لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا} الآيتين. فاعترف شعيب على أنه تعالى نجاه من ملتهم التى هي الكفر ولا يعود فيها والعائد إلى الشيء هو من كان فيه، فيرجع إليه بعد مفارقته وكذلك سبيل النجاة.
جوابه: العود إلى الشيء قد يستعمل فيما لم يكن فيه قط، فان الله تعالى سمى القيامة معادا وإن لم تكن فيها، وكذلك النجاة قد تستعمل فيما لم تكن فيه، فان السالم مما ابتلى به غيره قد يقول: الحمد لله الذى نجانا مما ابتلى به فلانا.
وجه آخر: وهو أن الكناية في قوله: {بعد إذ نجانا الله منها} يرجع إلى الملة، ويجوز أن يكون شعيب قبل الوحى مكلفا بتلك الملة، ثم صارت منسوخة، فدعوه إليها مرة أخرى فأجابهم شعيب عليه السلام بأنه ليس له أن يعود إليها بعد نسخها. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ}
قوله تعالى: {لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ}: العامَّةُ على فَتْح ياءِ المضارعة من جَرم ثلاثيًا. وقرأ الأعمشُ وابنُ وثاب بضمِّها مِنْ أجرم. وقد تقدم أنَّ {جَرَمَ} يتعدَّى لواحدٍ ولاثنين مثل كسب، فيقال: جَرَم زيدٌ مالًا نحو: كَسَبه، وجَرَمْتُه ذَنْبًا، أي: كَسَبَتْه إياه فهو مثلُ كَسَب، وأنشد الزمخشري على تعدِّيه لاثنين قولَ الشاعر:
ولقد طَعَنْتُ أبا عُيَيْنَة طعنَةً ** جَرَمَتْ فَزارةُ بعدها أن يَغْضَبوا

فيكون الكاف والميم هو المفعول الأول، والثاني هو: أن يُصيبكم أي: لا تَكْسِبَنَّكُم عداوتي إصابةَ العذاب. وقد تقدم أن جَرَم وأَجْرم بمعنىً، أو بينهما فرق. ونسب الزمخشري ضمَّ الياءِ مِنْ أجرم لابن كثير.
والعامَّةُ أيضًا على ضم لام {مثلُ} رفعا على أنه فاعل {يُصيبكم}، وقرأ مجاهد والجحدري بفتحها، وفيها وجهان، أحدهما: أنها فتحة بناء وذلك أنَّه فاعل كحاله في القراءة المشهورة، وإنما بُني على الفتح لإِضافته إلى غير متمكن كقوله تعالى: {إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات: 23] وكقوله:
لمَ يَمْنَعِ الشُّرْبَ منها غيرَ أَنْ نَطقَتْ ** حَمامةٌ في غُصون ذات أَوْقالِ

وقد تقدَّم تحقيقُ هذه القاعدةِ في الأنعام. والثاني: أنه نعتٌ لمصدر محذوف فالفتحة للإِعراب، والفاعلُ على هذا مضمرٌ يفسره سياقُ الكلام، أي: يصيبكم العذاب إصابةً مثلَ ما أصابَ.
قوله: {بِبَعِيدٍ} أتى ب {بعيد} مفردًا وإن كان خبرًا عن جمعٍ لأحد أوجهٍ: إمَّا لحَذف مضاف تقديرُه: وما إهلاك قومٍ، وإمَّا باعتبار زمان، أي: بزمانٍ بعيد، وإما باعتبار مكان، أي: بمكان بعيد، وإمَّا باعتبار موصوفٍ غيرِهما، أي: بشيءٍ بعيد، كذا قدَّره الزمخشري، وتبعه الشيخ، وفيه إشكالٌ من حيث إنَّ تقديرَه بزمان يلزم فيه الإِخبارُ بالزمان عن الجثَّة. وقال الزمخشري أيضًا: ويجوز أن يسوى في قريب وبعيد وقليل وكثير بين المذكر والمؤنث لورودِها على زِنَةِ المصادر التي هي كالصَّهيل والنهيق ونحوهما.
{وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90)} والوَدُود بناءُ مبالغة مِنْ وَدَّ الشيءَ يَوَدُّه وُدًّا، ووِدادًا، ووِدادَةً وودَادة أي أَحبَّه وآثره. والمشهور وَدِدْت بكسر العين، وسمع الكسائي وَدَدْت بفتحها، والوَدود بمعنى فاعل أي يَوَدُّ عبادَه ويرحمهم. وقيل: بمعنى مفعول بمعنى أن عبادَه يحبُّونه ويُوادُّون أولياءَه، فهم بمنزلة المُوادُّ مجازًا.
{قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91)} والرَّهْط جماعةُ الرجل. وقيل: الرَّهْط والرَّاهط لِما دون العشرة من الرجال، ولا يقع الرَّهْطُ والعَصَب والنَّفَر إلا على الرجال. وقال الزمخشري: من الثلاثة إلى العشرة، وقيل: إلى السبعة ويُجْمع على أَرْهُط، وأَرْهُط على أراهِط قال:
يا بُؤْسَ للحَرْب التي ** وَضَعَتْ أراهِطَ فاستراحوا

قال الرمَّاني: وأصلُ الكلمة من الرَّهْط، وهو الشدُّ، ومنه التَّرْهيط وهو شدَّةُ الأكل والرَّاهِطاء اسم لجُحْر من جِحَرة اليَرْبوع لأنه يَتَوَثَّقُ به ويَحْيَا فيه أولادُه.
قوله: {وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} قال الزمخشري: وقد دلَّ إيلاءُ ضميرِه حرفَ النفي على أنَّ الكلامَ واقعٌ في الفاعل لا في المفعول كأنه قيل: وما أنت بعزيزٍ علينا بل رَهْطُك هم الأعزَّة علينا، فلذلك قال في جوابهم: {أرهطي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ الله} ولو قيل: وما عَزَزْتَ علينا لم يصحَّ هذا الجواب. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ}
تورثكم مُخالَفَتُكم إياي فيما أدعوكم إليه من طاعةِ اللَّهِ أَنْ يلحقكم من أليم العقوبة ما أصاب مَنْ تقدَّمكم من الذين سِرْتُم على منهاجهم، وما عهدُكم ببعيد بمن تحققتم كيف حَلَّتْ بهم العقوبة، وكيف أنهم ما زادتْهم كثرةُ النصحيةِ إلاَّ غُلُوَّا في ضلالتهم، وعُتُوَّا في جهالتهم، وكما قيل.
وكمْ صُغْتُ في آثاركم من نصيحةٍ ** وقد يستفيد البغضةَ المُتَنَصِّحُ

{وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90)}
الاستغفار هو التوبة.
ومعنى قوله: {ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ} أي توبوا ثم لا تُنْقِصُوا توبتَكم؛ فهو أمرٌ باستدامة التوبة؛ فإذا لم يتصل وفاءُ المآلِ بصفاءِ الحال لم يحصل قَبُولٌ، وكأن لم يكن لِمَا سَلَفَ حصولٌ.
{إنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ}: يرحم العصاةَ ويودُّهم.
ويقال يرحمهم ولذلك يودونه؛ فالودود يكون بمعنى المودود كَحلُوب بمعنى محلوب. والرحمة تكون للعاصي لأنَّ المطيعَ بوصف استحقاقه للثواب على طاعاته، ثم ليس كلُّ من يُحِبُّ السلطانَ في محلّ الأكابر، فالأصاغِرُ من الجُنْدِ قد يحبون المَلِكَ، وأنشدوا:
ألا رُبَّ مَنْ يدنو ويزعم أنه ** يودُّك والنّائي أودُّ وأقربُ

{قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91)}
لاحظوا شعيبًا بعين الاستصغار فَحُرِمُوا فَهْمَ معاني الخطاب، وأقَرُّوا على أنفسِهم بالجهل، وأحالوا إعفاءًهم إياه من الأذى على حشمتهم من رهطه وعشيرته، فعاتَبهُم عليه: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92)}. اهـ.

.تفسير الآيات (92- 95):

قوله تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان تخصيصهم نفي العزة به يفهم أن رهطه عليهم أعزة، أنكر عليهم ذلك في سياق مهدد لهم فقال تعالى حاكيًا عنه استئنافًا: {قال} أي شعيب: {يا قوم} ولم يخل الأمر من جذب واستعطاف بذكر الرحم العاطفة: {أرهطي} أي أقاربي الأقربون منكم: {أعز عليكم من الله} أي المحيط بكل شيء علمًا وقدرةً حتى نظرتم إليهم فيّ لقرابتي منهم ولم تنظروا إلى الله في قربي منه بما ظهر عليّ من كرامته: {واتخذتموه} أي بما كلفتم به أنفسكم مما هو خلاف الفطرة الأولى: {وراءكم} أي أعرضتم عنه إعراض من جعل الشيء وراءه؛ وحقق معنى الوراء بقوله: {ظهريًا} أي جعلتموه كالشيء الغائب عنكم المنسي عندكم الذي لا يعبأ به، ولم تراقبوه فيّ لنسبتي إليه بالرسالة والعبودية.
ولما كان معنى الكلام لأجل الإنكار: إنكم عكستم في الفعل فلم تعرفوا الحق لأهله إذ كان ينبغي لكم أن لا تنسوا الله بل تراقبوه في كل أموركم، حسن تعليل هذا المفهوم بقوله: {إن ربي} أي المحسن إليّ؛ ولما كان المراد المبالغة في إحاطة علمه تعالى بأعمالهم قدم قوله: {بما تعملون محيط} من جليل وحقير، فهو مقتدر في كل فعل من أفعالكم على إنفاذه وإبطاله، فهو محيط بكم لا يرده عن نصرتي منكم والإيقاع بكم مراعاة أحد لعزة ولا قوة، بل لكم عنده أجل هو مؤخركم إليه لأنه لا يخشى الفوت؛ والاتخاذ: أخذ الشيء لأمر يستمر في المستأنف كاتخاذ البيت؛ والمحيط: المدير على الشيء كالحائط يحصره بحيث لا يفوته منه شيء.
ولما ختم الآية بتهديدهم بما بين أن تهديدهم له عدم لا يبالي به، أتبعه ما يصدقه من أنه ليس بتارك شيئًا من عمله مما جبلوا به، وزاد في التهديد فقال: {ويا قوم اعملوا} أي أوقعوا العمل لكل ما تريدون قارين مستعلين: {على مكانتكم} أي حالكم الذي تتمكنون به من العمل: {إني عامل} على ما صار لي مكانة، أي حالًا أتمكن به من العمل لا أنفك عنه ما أنا عامل من تحذيري لمن كفر وتبشيري لمن آمن وقيامي بكل ما أوجب عليّ الملك غير هائب لكم ولا خائف منكم ولا طامع في مؤالفتكم ولا معتمد على سواه.
ولما كانت ملازمتهم لأعمالهم سببًا لوقوع العذاب المتوعد به ووقوعه سببًا للعلم بمن يخزي لمن يعلم أي هذين الأمرين يراد، ذكره بعد هذا التهديد فحسن حذف الفاء من قوله: {سوف تعلمون} أي بوعد لا خلف فيه وإن تأخر زمانه، وسوقه مساق الجواب لمن كأنه قال: ما المراد بهذا الأمر بالعمل المبالغ قبل في النهي عنه؟ وقد تقدم في قصة نوح عليه السلام ما يوضحه.
وأحسن منه أنهم لما قالوا: {ما نفقه كثيرًا مما تقول} كذبهم- في إخراج الكلام على تقدير سؤال من هو منصب الفكر كله إلى كلامه- قائل: ماذا يكون إذا عملنا وعملت؟ فهذا وصل خفي مشير إلى تقدير السؤال ولو ذكر الفاء لكان وصلًا ظاهرًا، وقد ظهر الفرق بين كلام الله العالم بالإسباب وما يتصل بها من المسبباب المأمور بها أشرف خلقه صلى الله عليه وسلم في سورة الأنعام والزمر والكلام المحكي عن نبيه شعيب عليه السلام في هذه السورة: {من} أي أينا أو الذي: {يأتيه عذاب يخزيه} ولما كان من مضمون قولهم: {ما نفقه كثيرًا مما تقول} النسبة إلى الكذب لأنه التكلم بما ليس له نسبة في الواقع تطابقه، قال: {ومن هو كاذب} أي مني ومنكم، فالتقدير إن كانت من موصولة: ستعلمون المخزي بالعذاب والكذب أنا وأنتم، وإن كانت استفهامية: أينا يأتيه عذاب يخزيه وأينا هو كاذب، فالزموا مكانتكم لا تتقدموا عنها: {وارتقبوا} أي انتظروا ما يكون من عواقبها.
ولما كانوا يكذبونه وينكرون قوله، أكد فقال: {إني معكم رقيب} لمثل ذلك، وإنما قدرت هذا المعطوف عليه لفصل الكلام في قوله: {سوف} ويجوز عطفه على: {اعملوا} وجرد ولم يقل: مرتقب، إشارة إلى أن همه الاجتهاد في العمل بما أمره الله لأنه مبالغ في ارتقاب عاقبته معهم استهانة بهم.
ولما كان كأنه قيل: فأخذوا الكلام على ظاهره ولم ينتفعوا بصادع وعيده وباهره، فاستمروا على ما هم عليه من القبيح إلى أن جاء أمرنا في الأجل المضروب له، قال عاطفًا عليه، وكان العطف بالواو لأنه لم يتقدم وعيد بوقت معين- كما في قصتي صالح ولوط عليهما السلام- يتسبب عنه المجيء ويتعقبه: {ولما جاء أمرنا} أي تعلق إرادتنا بالعذاب: {نجينا} بما لنا من العظمة: {شعيبًا} أي تنجية عظيمة: {والذين آمنوا} كائنين: {معه} منهم ومما عذبناهم به، وكان إنجاءنا لهم: {برحمة منا} ولما ذكر نجاة المؤمنين، أتبعه هلاك الكافرين فقال: {وأخذت الذين ظلموا} أي أوقعوا الظلم ولم يتوبوا: {الصيحة} وكأنها كانت دون صيحة ثمود لأنهم كانوا أضعف منهم فلذلك أبرز علامة التأنيث في هذه دون تلك.
ولما ذكر الصيحة ذكر ما تسبب عنها فقال: {فأصبحوا} أي في الوقت الذي يتوقع الإنسان فيه السرور وكل خير: {في ديارهم جاثمين} أي ساقطين لازمين لمكانهم.
ولما كان الجثوم قد لا يكون بالموت، أوضح المراد بقوله: {كأن لم يغنوا فيها} أي لم يقيموا في ديارهم أغنياء متصرفين مترددين مع الغواني لاهين بالغناء؛ ولما كان مضمون ذلك الإبعاد أكده بقوله: {ألا بعدًا لمدين} بعدًا مع أنه بمعنى ضد القرب معه هلاك، فهو من بعد بالكسر وأيد ما فهمته من أن أمرهم كان أخف من أمر ثمود بقوله: {كما بعدت ثمود}. اهـ.